فصل: تفسير الآية رقم (223):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (223):

{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} أخرج البخاري وجماعة عن جابر قال: «كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها ثم حملت جاء الولد أحول فنزلت» والحرث إلقاء البذر في الأرض وهو غير الزرع لأنه إنباته يرشدك إلى ذلك قوله تعالى: {أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرعون لَوْ} [الواقعة: 63- 64] قال الجوهري: الحرث الزرع والحارث الزارع وعلى كل تقدير هو خبر عما قبله إما بحذف المضاف أي مواضع حرث، أو التجوز والتشبيه البليغ أي كمواضع ذلك وتشبيههن بتلك المواضع متفرع على تشبيه النطف بالبذور من حيث إن كلا منهما مادة لما يحصل منه ولا يحسن بدونه فهو تشبيه يكنى به عن تشبيه آخر.
{فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} أي ما هو كالحرث ففيه استعارة تصريحية ويحتمل أن يبقى الحرث على حقيقته والكلام تمثيل شبه حال إتيانهم النساء في المأتى بحال إتيانهم المحارث في عدم الاختصاص بجهة دون جهة ثم أطلق لفظ المشبه به على المشبه، والأول أظهر وأوفق لتفريع حكم الاتيان على تشبيههن بالحرث تشبيهًا بليغًا، وهذه الجملة مبينة لقوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] لما فيه من الإجمال من حيث المتعلق، والفاء جزائية، وما قبلها علة لما بعدها، وقدم عليه اهتمامًا بشأن العلة وليحصل الحكم معللا فيكون أوقع، ويحتمل أن يكون المجموع كالبيان لما تقدم، والفاء للعطف وعطف الإنشاء على الأخبار جائز بعاطف سوى الواو {إِنّى شِئْتُمْ} قال قتادة والربيع: من أين شئتم وقال مجاهد: كيف شئتم، وقال الضحاك: متى شئتم، ومجيء {إِنّى} عنى أين وكيف ومتى مما أثبته الجم الغفير، وتلزمها على الأول من ظاهرة أو مقدرة، وهي شرطية حذف جوابها لدلالة الجملة السابقة عليه، واختار بعض المحققين كونها عنى من أين أي من أي جهة ليدخل فيه بيان النزول، والقول بأن الآية حينئذ تكون دليلًا على جواز الاتيان من الأدبار ناشئ من عدم التدبر في أن من لازمة إذ ذاك فيصير المعنى من أي مكان لا في أي مكان فيجوز أن يكون المستفاد حينئذ تعميم الجهات من القدام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال لا تعميم مواضع الاتيان فلا دليل في الآية لمن جوز إتيان المرأة في دبرها كابن عمر، والأخبار عنه في ذلك صحيحة مشهورة، والروايات عنه بخلافها على خلافها، وكابن أبي مليكة وعبد الله بن القاسم حتى قال فيما أخرجه الطحاوي عنه: ما أدركت أحدًا اقتدى به في ديني يشك في أنه حلال، وكمالك بن أنس حتى أخرج الخطيب عن أبي سلمان الجوزجاني أنه سأله عن ذلك فقال له: الساعة غسلت رأس ذكري منه، وكبعض الإمامية لا كلهم كما يظنه بعض الناس ممن لا خبرة له ذهبهم، وكسحنون من المالكية، والباقي من أصحاب مالك ينكرون رواية الحل عنه ولا يقولون به، ويا ليت شعري كيف يستدل بالآية على الجواز مع ما ذكرناه فيها، ومع قيام الاحتمال كيف ينتهض الاستدلال لاسيما وقد تقدم قبل وجوب الاعتزال في المحيض وعلل بأنه أذى مستقذر تنفر الطباع السليمة عنه، وهو يقتضي وجوب الاعتزال عن الاتيان في الأدبار لاشتراك العلة، ولا يقاس ما في المحاش من الفضلة بدم الاستحاضة ومن قاس فقد أخطأت إسته الحفرة لظهور الاستقذار.
والنفرة مما في المحاش دون دم الاستحاضة، وهو دم انفجار العرق كدم الجرح؛ وعلى فرض تسليم أن {إِنّى} تدل على تعميم مواضع الاتيان كما هو الشائع يجاب بأن التقييد واضع الحرث يدفع ذلك فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية المحيض قال: بلى فقرأ {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض} إلى {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم من ثم أمرت أن تأتي فقال: كيف بالآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ إِنّى شِئْتُمْ}؟ فقال: ويحك، وفي الدبر من حرث لو كان ما تقول حقًا لكان المحيض منسوخًا إذا شغل من هاهنا جئت من هاهنا ولكن أنى شئتم من الليل والنهار، وما قيل: من أنه لو كان في الآية تعين الفرج لكونه موضع الحرث للزم تحريم الوطء بين الساقين وفي الاعكان لأنها ليست موضع حرث كالمحاش، مدفوع بأن الأمناء فيها عدا الضمامين لا يعد في العرف جماعًا ووطئًا والله تعالى قد حرم الوطء والجماع في غير موضع الحرث لا الاستمناء فحرمة الاستمناء بين الساقين وفي الأعكان لم تعلم من الآية إلا أن يعد ذلك إيتاءًا وجماعًا وأنى به، ولا أظنك في مرية من هذا وبه يعلم ما في مناظرة الإمام الشافعي والإمام محمد بن الحسن، فقد أخرج الحاكم عن ابن عبد الحكم أن الشافعي ناظر محمدًا في هذه المسألة فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج فقال له أفيكون ما سوى الفرج محرمًا فالتزمه؟ فقال أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في في أعكانها أو في ذلك حرث؟ قال: لا قال: أفيحرم؟ قال: لا قال: فكيف تحتج بما لا تقول به، وكأنه من هنا قال الشافعي فيما حكاه عنه الطحاوي. والحاكم. والخطيب لما سئل عن ذلك: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال وهذا خلاف ما نعرف من مذهب الشافعي فإن رواية التحريم عنه مشهورة فلعله كان يقول ذلك في القديم ورجع عنه في الجديد لما صح عنده من الأخبار أو ظهر له من الآية.
{وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ} ما يصلح للتقديم من العمل الصالح ومنه التسمية عند الجماع وطلب الولد المؤمن، فقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا» وصح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له» وعن عطاء تخصيص المفعول بالتسمية. وعن مجاهد بالدعاء عند الجماع، وعن بعضهم بطلب الولد وعن آخرين بتزوج العفائف والتعميم أولى {واتقوا الله} فيما أمركم به ونهاكم عنه. {واعلموا أَنَّكُم ملاقوه} بالبعث فيجازيكم بأعمالكم فتزودوا ما ينفعكم؛ والضمير المجرور راجع إلى الله تعالى بحذف مضاف أو بدونه ورجوعه إلى ما قدمتم أو إلى الجزاء المفهوم منه بعيد والأوامر معطوفة على قوله تعالى: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} وفائدتها الإرشاد العام بعد الإرشاد الخاص وكون الجملة السابقة مبينة لا يقتضي أن يكون المعطوف عليها كذلك {وَبَشّرِ المؤمنين} الذين تقلوا ما خوطبوا به بالقبول والامتثال بما لا تحيط به عبارة من الكرامة والنعيم، وحمل بعضهم المؤمنين على الكاملين في الإيمان بناءًا على أن الخطابات السابقة كانت للمؤمنين مطلقًا فلو كانت هذه البشارة لهم كان مقتضى الظاهر وبشرهم فلما وضع المظهر موضع المضمر علم أن المراد غير السابقين وهم المؤمنون الكاملون ولا يخفى أنه يجوز أن يكون العدول إلى الظاهر للدلالة على العلية ولكونه فاصلة فلا يتم ما ذكره والواو للعطف، {وَبَشّرِ} عطف على {قُلْ} [البقرة: 222] المذكور سابقًا أو على قل مقدرة قبل قدموا وهي معطوفة على مذكورة ومن باب الإشارة: {يَسْأَلُونَكَ} عن خمر الهوى وحب الدنيا وميسر احتيال النفس بواسطة قداحها التي هي حواسها العشرة المودعة في ربابة البدن لنيل شيء من جزور اللذات والشهوات {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ} الحجاب والبعد عن الحضرة {ومنافع لِلنَّاسِ} في باب المعاش وتحصيل اللذة النفسانية والفرح بالذهول عن المعايب والخطرات المشوشة والهموم المكدرة {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} لأن فوات الوصال في حضائر الجمال لا يقابله شيء، ولا يقوم مقامه وصال سعدي ولامي ولفرق عند الأبرار بين السكر من المدير والسكر من المدار:
وأسكر القوم ورود كأس ** وكان سكرى من المدير

وهذا هو السكر الحلال لكنه فوق عالم التكليف ووراء هذا العالم الكثيف وهو سكر أرواح لا أشباح وسكر رضوان لا حميا دنان:
وما مل ساقيها ولا مل شارب ** عقار لحاظ كأسها يسكر اللبا

{وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} وهو ما سوى الحق من الكونين {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} المنزلة من سماء الأرواح {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] {فِى الدنيا والاخرة} [البقرة: 220] وتقطعون بواديهما بأجنحة السير والسلوك إلى ملك الملوك {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض} وهو غلبة دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية {قُلْ هُوَ أَذًى} تنفر القلوب الصافية عنه {فاعتزلوا} بقلوبكم نساء النفوس في محيض غلبات الهوى {حتى يَطْهُرْنَ} ويفرغن من قضاء الحوائج الضرورية {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} اء الإنابة ورجعن إلى الحضرة في طلب القربة {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} أي عند ظهور شواهد الحق لزهوق باطل النفس واضمحلال هواها {إِنَّ الله يُحِبُّ التوبين} عن أوصاف الوجود {وَيُحِبُّ المتطهرين} [البقرة: 222] بنور المعرفة عن غبار الكائنات، أو يحب التوابين من سؤالاتهم ويحب المتطهرين من إراداتهم نساؤكم وهي النفوس التي غدت لباسًا لكم وغدوتم لباسًا لهن موضع حرثكم للآخرة {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} متى شئتم الحراثة لمعادكم {وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ} ما ينفعها ويكمل نشأتها {واتقوا الله} من النظر إلى ما سواه {واعلموا أَنَّكُم ملاقوه} بالفناء فيه إذا اتقيتم {وَبَشّرِ المؤمنين} بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

.تفسير الآية رقم (224):

{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}
{وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لايمانكم} أخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها نزلت في الصديق رضي الله تعالى عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح بن خالته وكان من الفقراء المهاجرين لما وقع في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف على ختنه بشير بن النعمان أن لا يدخل عليه أبدًا ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته بعد أن كان قد طلقها وأراد الرجوع إليها والصلح معها، والعرضة فعلة عنى المفعول كالقبضة والغرفة وهي هنا من عرض الشيء من باب نصر أو ضرب جعله معترضًا أو من عرضه للبيع عرضًا من باب ضرب إذا قدمه لذلك، ونصبه له والمعنى على الأول لا تجعلوا الله حاجزًا لما حلفتم عليه وتركتموه من أنواع الخير فيكون المراد بالأيمان الأمور المحلوف عليها وعبر عنها بالأيمان لتعلقها بها أو لأن اليمين عنى الحلف تقول حلفت يمينًا كما تقول حلفت حلفًا فسمي المفعول بالمصدر كما في قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم وغيره: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير»، وقيل: على في الحديث زائدة لتضمن معنى الاستعلاء.
وقوله تعالى: {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس} عطف بيان {لأيمانكم} وهو غير الاعلام كثير وفيها أكثر، وقيل: بدل وضعف بأن المبدل منه لا يكون مقصودًا بالنسبة بل تمهيد وتوطئة للبدل وههنا ليس واللام صلة عرضة، وفيها معنى الاعتراض أو بتجعلوا والأول أولى وإن كان المآل واحدًا، وجوز أن تكون الأيمان على حقيقتها واللام للتعليل و{أن تبروا} في تقدير لأن ويكون صلة للفعل أو لعرضة، والمعنى: لا تجعلوا الله تعالى حاجزًا لأجل حلفكم به عن البر والتقوى والاصلاح، وعلى الثاني ولا تجعلوا الله نصبًا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل لأن في ذلك نوع جرأة على الله تعالى وهو التفسير المأثور عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وبه قال الجبائي وأبو مسلم وروته الإمامية عن الأئمة الطاهرين، ويكون {أن تبروا} علة للنهي على معنى أنهيكم عنه طلب بركم وتقواكم وإصلاحكم إذ الحلاف مجترئ على الله تعالى والمجترئ عليه عزل عن الاتصاف بتلك الصفات ويؤول إلى لا تكثروا الحلف بالله تعالى لتكونوا بارين متقين ويعتمد عليكم الناس فتصلحوا بينهم، وتقدير الطلب ونحوه لازم إن كان {أَن تَبَرُّواْ} في موضع النصب ليتحقق شرط حذف اللام وهو المقارنة لأن المقارنة للنبي ليس هو البر والتقوى والاصلاح بل طلبها وإن كان في موضع الجر بناءًا على أن حذف حرف الجر من أن وإن قياسي فليس بلازم وإنما قدروه لتوضيح المعنى والمراد به طلب الله تعالى لا طلب العبد، وإن أريد ذلك كان علة للكف المستفاد من النهي كأنه قيل: كفوا أنفسكم من جعله سبحانه عرضة وطلب العبد صالح للكف {والله سَمِيعٌ} لأقوالكم وأيمانكم {عَلِيمٌ} بأحوالكم ونياتكم فحافظوا على ما كلفتموه، ومناسبة الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمرهم بالتقوى نهاهم عن ابتذال اسمه المنافي لها أو نهاهم عن أن يكون اسمه العظيم حاجزًا لها ومانعًا منها.

.تفسير الآية رقم (225):

{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم} اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولغو اليمين عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ما سبق له اللسان، وما في حكمه مما لم يقصد منه اليمين كقول العرب لا والله لا بالله لمجرد التأكيد، وهو المروي عن عائشة وابن عمر وغيرهما في أكثر الروايات، والمعنى لا يؤاخذكم أصلًا بما لا قصد لكم فيه من الأيمان.
{ولكن يُؤَاخِذُكُم بما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي بما قصدتم من الأيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم، ولا يعارض هذه الآية ما في المائدة (98) من قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم ولكن يُؤَاخِذُكُم بما عَقَّدتُّمُ الايمان فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين} إلخ بناءًا على أن مقتضى هذه المؤاخذة بالغموس لأنها من كسب القلب وتلك تقتضي عدمها لأن اللغو فيها خلاف المعقودة، وهي ما يحلف فيها على أمر في المستقبل أن يفعل ولا يفعل لوقوعه في مقابلة قوله سبحانه: {ا عَقَّدتُّمُ الايمان} [المائدة: 89] فيتناول الغموس وهو الحلف على أمر ماض متعمد الكذب فيه ولغويته لعدم تحقق البر فيه الذي هو فائدة اليمين الشرعية لأن الشافعي حمل {ا عَقَّدتُّمُ} على كسب القلب من عقدت على كذا عزمت عليه، ولم يعكس لأن العقد مجمل يحتمل عقد القلب، ويحتمل ربط الشيء بالشيء، والكسب مفسر، ومن القواعد حمل المجمل على المفسر، وإذا حمل عليه شمل الغموس، وكان اللغو ما لا قصد فيه لا خلاف المعقودة إذ لا معقودة فتتحد الآيتان في المؤاخدة على الغموس وعدم المؤاخذة على اللغو إلا أنه إن كان للفعل المنفي عموم كان في الآيتين نفي المؤاخذة فيما لا قصد فيه بالعقوبة، والكفارة وإثبات المؤاخذة في الجملة بهما أو بأحداهما فيما فيه قصد، وإن لم يكن له عموم حمل المؤاخذة المطلقة في هذه الآية على المؤاخدة المقيدة بالكفار في آية المائدة بناءًا على اتحاد الحادثة والحكم، وسوق الآية لبيان الكفارة فلا تكرار، وأيد العموم بما أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم «مر بقوم ينتصلون ومعه بعض أصحابه فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله أخطأت والله، فقال الذي معه: حنث الرجل يا رسول الله فقال كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة» وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن اللغو هنا ما لا قصد فيه إلى الكذب بأن لا يكون فيه قصد أو يكون بظن الصدق، وحمل المؤاخذة على الأخروية بناءًا على أن دار المؤاخذة هي الآخرة وأن المطلق ينصرف إلى الكامل وقرنت هذه المؤاخذة بالكسب إذ لا عبرة للقصد وعدمه في وجوب الكفارات التي هي مؤاخذات دنيوية، لا شك أنه جرد اليمين بدون الحنث لا تتحقق المؤاخذة الأخروية في المعقودة فلا يمكن إجراء ما كسبت على عمومه فلابد من تخصيصه بالغموس فيتحصل من هذه الآية المؤاخذة الأخروية في الغموس دون الدنيوية التي هي الكفارة، وفيه خلاف الشافعي وعدم المؤاخذة الأخروية فيما عداها مما فيه قصد بظن الصدق، ومما لا قصد فيه أصلا وفيه وفاق الشافعي وحمل المؤاخذة في آية المائدة على الدنيوية بقرينة قوله سبحانه فيها: {فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 98] إلخ، وقوله تعالى: {بما عَقَّدتُّمُ} على المعقودة لأنّ المتبادر من العقد ربط الشيء بالشيء وهو ظاهر في المعقودة فالمراد باللغو في تلك الآية ما عداها من الغموس وغيره فيتحصل منها عدم المؤاخذة الدنيوية بالكفارة على غير المعقودة، وهي الغموس والمؤاخذة عليه في الآخرة كما علم من آية البقرة والحلف بلا قصد أو به مع ظنّ الصدق لغير المؤاخذة عليهما في الآخرة كما علم منها أيضًا، والمؤاخذة الدنيوية على المعقودة التي لم يعلم حكمها في الآخرة من الآيتين لظهوره من ترتب المؤاخذة الدنيوية عليه فلا تدافع بين الآيتين عنده أيضًا لأن مقتضى الأولى: تحقق المؤاخذة الأخروية في الغموس، ومقتضى الثانية: عدم المؤاخذة الدنيوية فيه، ومن هذا يعلم أن ما في الهداية وشاع في كتب الأصحاب عن الإمام حيث قال: إن الأيمان على ثلاثة أضرب يمين العموس ويمين منعقدة ويمين لغو وبين حكم كل وفسر الأخير بأن يحلف على أمر ماض وهو يظن أنه كما قال والأمر بخلافه، وثبت في بعض الروايات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وغيره ليس بشيء لو كان المقصود بما في التفسير الحصر لا التمثيل للغو لأن اللائق بالنظم أن يكون {ما كسبت} مقابلًا للغو من غير واسطة بينهما، وبقصد الحصر يبقى اليمين الذي لا قصد معه واسطة بينهما غير معلوم الإسم ولا الرسم، وهو مما لا يكان يكون كما لا يخفى على المنصف فليتدبر فإنه مما فات كثيرًا من الناس.
وذهب مسروق إلى أن اللغو هو الحلف على المعاصي وبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة. وروى عن ابن عباس وطاوس أنه اليمين في حال الغضب فلا كفارة فيها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحرّم ما أحل الله تعالى عليك بأن تقول: مالي عليَّ حرام إن فعلت كذا مثلًا وبهذا أخذ مالك إلا في الزوجة وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: هو كقول الرجل: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا، وكقوله: هو مشرك هو كافر إن لم يفعل كذا، فلا يؤاخذ به حتى يكون من قبله، وقيل: لغو اليمين يمين المكره حكاه ابن الفرس ولم ير مسندًا هذا ولم يعطف قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ} الآية على ما قبله لاختلافها خبرًا وإنشاءًا، وإن كانا متساركين في كون كل منهما بيانًا لحكم الأيمان {والله غَفُورٌ} حيث يؤاخذكم باللغو {حَلِيمٌ} حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد؛ والجملة تذييل للجملتين السابقتين، وفائدته الامتنان على المؤمنين وشمول الإحسان لهم والحليم من حلم بالضم يحلم إذا أمهل بتأخير العقاب، وأصل الحلم الأناة، وأما حلم الأديم فبالكسر يحلم بالفتح إذا فسد، وأمّا حلم أي رأى في نومه فبالفتح ومصدر الأوّل الحلم بالكسر ومصدر الثاني الحلم بفتح اللام ومصدر الثالث الحلم بضم الحاء مع ضم اللام وسكونها.